من المشكوك فيه أن أي كاتب لديه اتصال بالإنترنت في مكان عمله بإمكانه أن يكتب نصا أدبيا جيدا.
الأديب الأمريكي جوناثان فرنزن.
بناء على تجربتي الشخصية بإمكاني أن أؤكد أن جوناثان فرنزن على حق. بلا شك أن  الانترنت هو أكبر عدو للإبداع لأنه يعطل قدرة الكاتب على التفكير والتأمل و يملأ عقله بكمية هائلة من التشويش والضجة والثرثرة الالكترونية الفارغة. إنني لا أعادي الانترنت, فلولاه لما تمكنت من نشر هذا المقال ولما رأت الكثير من الكتابات  الرائعة والمهمة النور ووصلت للناس بسهولة وسرعة.
 قبل الانترنت كان أي شخص لديه موهبة أدبية لا
 يتمكن من نشر كتاباته إلا لو كان لديه معارف في الوسط الأدبي والصحفي حتى يمنحونه مساحة صغيرة لينشر فيها  في الجرائد والمجلات , لكن دخول الانترنت للمنازل أحدث ثورة في عالم المعرفة والاتصال وأدى إلى رفع جميع العوائق التي كانت تحول بين وصول الكاتب للقراء, فصار بإمكان الكاتب النشر لنفسه بالمجان والتفاعل مع جمهوره وتلقي ردود أفعال مباشرة  منهم على كتاباته.  
مع بداية انتشار الانترنت  كانت المنتديات والمدونات هي الملجأ الرئيسي لكل هواة الكتابة, كانت المدونات بمثابة مجلة صغيرة والمدون هو رئيس تحريرها , اتخذ الكتاب المدونات وسيلة  للهروب من رقابة الصحف وقيود وسائل الاعلام التقليدية ولنشر ابداعاتهم والتعبير عن أراءهم بحرية وصدق,  وبالفعل حققت المدونات شهرة كبيرة للعديد من الكتاب لدرجة أن دور النشر حولت بعض هذه المدونات إلى كتب ورقية.
بدأت المدونات تفقد شهرتها وبريقها بعد  ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أحدثت ثورة جديدة في عالم الانترنت وغيرت من شكل التواصل بين الناس. لقد تحولت  مواقع التواصل الاجتماعي في فترة قياسية إلى  البيت الثاني لكل إنسان في العالم وصارت المصدر الأول للأخبار والتسلية والمحادثات اليومية , لذا بدأ الكتاب يهجرون المدونات و يلجئون لوسائل التواصل الاجتماعي  لنشر ابداعاتهم الأدبية والتسويق لها.
 لكن وسائل التواصل الاجتماعي لها قواعد مختلفة تماما عن المدونات,  إنها وسائل سريعة وآنية تعتمد على التفاعل اللحظي مع المنشورات التي يتم وضعها على الصفحة الرئيسية ثم تختفي هذه المنشورات بعد مرور ساعات ونزول منشورات أحدث.
لو حللنا جمهور وسائل التواصل الاجتماعي سنجد أنه جمهور مكون بالأساس من المراهقين والشباب الذين يتراوح اعمارهم بين 18 و25 سنة , هذا الجمهور من الصعب  أن تلفت نظره وتجذبه لأنه سريع الملل وقليل التركيز فهو محاط بكم هائل من المعلومات والأخبار والصور والفيديوهات التي لا يستطيع أن يقرأها كلها, وبالتالي فهو لا يملك القدرة أو الصبر على قراءة مقال تحليلي طويل مليء بالمعلومات والأفكار أو نص أدبي عميق, و يفضل قراءة " بوست " قصير  مكتوب بالعامية  يتضمن تعليق ساخر على الأخبار اليومية والموضوعات الرائجة.
استطاع كتاب عديدون أن يعرفوا متطلبات هذا الجمهور ويتفاعلوا معه بالطريقة التي يريدها فجذبوا آلاف المتابعين وصاروا من مشاهير السوشيال ميديا رغم أن  أغلب ما يكتبونه ينتمي إلى فئة الكتابات الاستهلاكية التي يمكن أن تقرأها وتستمتع بها لكنها لا تستقر في عقلك لمدة طويلة , إنها  ليست كتابات ناتجة عن فكر وتأمل عميق بل هي كتابات ناتجة عن تفاعل لحظي وتحليلات سريعة وأحيانا متسرعة للأحداث اليومية. لكن أصحاب بعض دور النشر رأوا في مشاهير السوشيال ميديا مصدرا مضمونا للربح فتسابقوا إلى تحويل كتاباتهم إلى كتب ورقية, ليس عجيبا أن هذه الكتب حققت نجاحا مع الشباب الصغير ممن  يعشقون أدب التيك أواي الذي يمكن قراءته بسرعة بدون الحاجة لبذل مجهود ذهني.
تأثير السوشيال ميديا على الوسط الأدبي صار قويا إلى درجة أن موافقة بعض دور النشر على التعامل مع الأدباء الجدد باتت مرهونة بشهرتهم وحجم متابعيهم في الفضاء الالكتروني , لقد تحولت  إشارات الإعجاب وعدد مرات الشير والتعليقات إلى  الدليل الأكيد على جودة النص الأدبي, فإذا استطعت أن تجذب إليك آلاف المتابعين فأنت بالتأكيد كاتب كبير فإما إذا كان متابعيك لا يتعدون مئة فأنت بالتأكيد كاتب فاشل. بناء على ذلك صار الهم الأساسي للكاتب ليس محتوى ما يكتبه ولكن عدد من يتفاعل مع هذا المحتوى وبدأ العديد من الكتاب يتحولون إلى ماكينة تسويق ودعاية لأنفسهم .
كل بضعة أيام تصلني رسالة من أحد الأدباء يطلب مني  أن أدخل على صحفته لأقرأ أشعاره أو مقالاته وأقوم بعمل لايك عليها , بل إن هناك بعض الأدباء يهددون أصدقائهم بالحذف من صحفتهم إذا لم يقرأوا  منشوارتهم ويعلقون عليها بالتشجيع والمدح. ومن هنا نشأت ظاهرة الشلل الأدبية الالكترونية التي تعتمد على تبادل اللايكات والتعليقات والشير والوقوف في صف الكاتب ضد أي شخص يجرؤ على انتقاده أو السخرية منه.
 لقد تحول  التسويق الالكتروني  إلى  الهم الأساسي  للكاتب إلى درجة أن بعض الكتاب باتوا يصبون اهتمامهم  في كتابة عبارات كاقتباسات يتم وضعها على الجروبات الأدبية وموقع الجود ريدز لجذب القراء, مما أثر بالسلب على  النصوص الأدبية التي باتت مهلهلة ومفككة.
 من المؤسف أننا نعيش في عصر صار الكاتب فيه عبدا للقراء وأراءهم وردود أفعالهم,  وصارت ثقته بنفسه متوقفة على عدد متابعيه وعدد مرات الإعجاب التي تحصل عليها منشوراته.
 من الملحوظ أيضا أن العديد من الأدباء  يستطلعون أراء الناس على  الانترنت في موضوعات رواياتهم بل وينشرون مقاطع منها أثناء كتابتهم لها حتى يقيسون مدى استجابة الناس 
لما يكتبونه ويعدلونه بناء على أراء القراء.
 التفكير في أراء الجماهير والحرص الزائد على لفت انتباههم وانتزاع اعجابهم يشتت الكاتب ويشوش تفكيره , وبالتالي يؤدي به إلى انتاج نص أدبي ضعيف لأنه لا يفكر في المعنى الذي يريد التعبير عنه بل فيما يريد الناس قراءته , تركيز الأديب على رأي الجمهور يردعه عن التعبير عن أرائه الحقيقية خوفا من انصراف القراء عنه كما يعوقه  الابتكار والقفز خارج الصندوق مما يجعل كتاباته باهتة بلا معنى ولا طعم.
أعتقد أن  أدباءنا الكبار  لو كانوا شبابا يعيشون في زمن السوشيال ميديا كانت موهبتهم الأدبية ستتأثر بالسلب بسبب تواجدهم المستمر على الفضاء الالكتروني واهدارهم لموهبتهم في بوستات لا تسمن ولا تغنى من الجوع .
 لابد أن يحرر الأديب نفسه من عبوديته  لأرقام الاعجاب والشير  لأن تلك الأرقام في حالة صعود وهبوط طوال الوقت, ومن يصير مشهورا اليوم سيفقد شهرته غدا عندما تتغير الموضة ويتغير مزاج القراء.  لابد أن يدرك الأدباء أن كتاباتهم تفقد معناها وأهميتها عندما يتخلون عن قوتهم لصالح الجماهير , من المفترض أن يتمسك الأديب باستقلاله الفكري حتى يستطيع أن يكون  قائدا للرأي العام بدلا من أن يكون عبدا له أو يكون مجرد دمية تتلاعب بها الأرقام.
لابد أن  يتوقف الأديب عن تسول الاهتمام والاعجاب من القراء وأن ينفصل تماما عن عالم السوشيال ميديا  على الأقل أثناء مرحلة الكتابة ويصب اهتمامه الأساسي على الابداع وعلى تقديم مضمون أدبي جيد. يوما ما سينتهي عصر السوشيال ميديا وستظهر وسائط اخرى للنشر ورغم  تغير العصور سيبقى النص الأدبي الجيد صالحا للقراءة في أي زمان. 

0 تعليقات