اعترف أني أردت الكتابة من فترة طويلة عن أزمات ومشاكل النشر في مصر, ولكني كنت أتراجع في آخر لحظة خوفا من التربص وسوء الفهم الذي قد يوقعني في صدامات ومعارك لا طائل من ورائها.
 اليوم قررت أن أتخطى خوفي وترددي وأتحدث بصراحة شديدة عن العقبات التي يتعرض لها الأدباء الجدد من أجل نشر إبداعاتهم والتي تؤدي إلى تحويل أحلامهم الأدبية الجميلة إلى كوابيس مفزعة.   ما أنوي الحديث عنه في هذا المقال ليس الغرض منه الإساءة او التشهير بأحد  لأن كل مجال فيه الصالح والطالح ولكني أتحدث عن ممارسات متكررة وظواهر شائعة في عالم النشر. المعلومات الواردة في المقال ليست مبنية  على تجربتي الشخصية فقط بل بناء على تجارب عدد كبير من زملائي الأدباء.
الهدف الأهم من المقال هو توعية الأدباء الجدد حتى يكونوا على دراية ووعي تام بما هم مقبلين عليه حتى لا يتحولون إلى ضحايا عمليات النصب والاحتيال باسم الأدب وحتى لا يصدقوا الخدع والأكاذيب التي يسوقها بعض من يعملون في مجال النشر.
إذا كنت أديبا جديدا فأنت بالتأكيد أنفقت سنوات من عمرك وبذلت مجهودا كبيرا من أجل تطوير موهبتك وكتابة عمل جيد جدير بالقراءة, بعد أن تنتهي من كتابة عملك الأدبي الأول وتنقيحه ينتابك الحماس والرغبة الشديدة في إيصاله للقراء بسرعة.
عندما تبدأ في البحث عن وسيلة لنشر كتابك سوف تصطدم بالعدد المهول لدور النشر. الأرقام تؤكد أن هناك  500 دار نشر في مصر, هذا العدد في زيادة مستمرة رغم ادعاء الناشرين أنهم يخسرون, في الماضي كان عدد دور النشر محدود وكان النشر أغلبه بالمجان وكان الكاتب يحصل على ربح لا بأس به من كتاباته, لكن مع مرور الوقت وتغير الظروف الاقتصادية صار النشر المدفوع هو السائد مما جعل عملية النشر أسهل وأصعب في الوقت نفسه.
 أغلب دور النشر تعلن أن هدفها الأول والأهم هو نشر الثقافة والمعرفة والارتقاء بالذوق الأدبي وتبني المواهب الشابة وهم دائما يؤكدون أن معيارهم الأول والوحيد في اختيار الكتب التي ينشرونها هو الجودة والمستوى الأدبي الرفيع.
لا تصدقوهم.
الهدف الأول والأهم لدور النشر هو الربح ثم الربح أما نشر الثقافة والمعرفة وما إلى ذلك هي أهداف ثانوية و شعارات رنانة من أجل  تجميل الصورة وخداع الُسذج من القراء والكتاب الجدد. الناشر تاجر و بضاعته هي الكتاب ودار النشر  هي  مشروع تجاري بالنسبة له و هذا الأمر ليس ليس مشكلة في حد ذاته, المشكلة هي ادعاء  ( البعض ) أن النشر عمل خيري أو تطوعي يقومون به  لوجه الله والوطن, والمشكلة الأكبر هي أن بعض من يدخلون مجال النشر لا يملكون  رأس مال كافي لاستثماره في مشروعهم أو أنهم يرفضون المخاطرة بوضع أموالهم في كتب عائدها غير مضمون, لذلك فهم يعتمدون في  التمويل بشكل أساسي على الزبون ألا وهو أنت.
 عندما تقوم بإرسال عملك الأدبي لإحدى دور النشر المدفوع ستفاجئ أن صاحب الدار يرد عليك في نفس اليوم أو في اليوم التالي على الأكثر مادحا في عملك الأدبي الرائع رغم انه لم يقرأ منه حرفا واحدا ثم سيخبرك بشكل مباشر بالمبلغ المطلوب منك  دفعه مقابل نشر كتابك, الرقم المدفوع عادة ما يتراوح  بين خمسة الاف جنية وقد يصل إلى سبعة الاف حسب عدد صفحات الكتاب.
لو حاولت أن تتفاوض معه وطلبت  منه أن ينشر كتابك مجانا سيخبرك أن معظم الأدباء الكبار دفعوا في بداية طريقهم من أجل نشر كتابهم الأول, وأن الدفع  هو الطريق الوحيد لك لوضع قدميك في الوسط الأدبي والوصول إلى القراء.
 سيُهدأ من مخاوفك ويعدك بأنك ستسترد نقودك حتما لأنه سيعطيك خمسين في المئة من الأرباح, وبعد أن تتحول إلى كاتب مشهور ويصبح لك التراس على الفيسبوك لن تضطر للدفع مرة أخرى, بل ستجد النقود تنهال عليك من كل حدب وصوب خاصة لو  تمكنت من الحصول على جائزة أدبية كبرى أو تحول عملك الأدبي إلى فيلم سينمائي أو مسلسل رمضاني, وبعد أن تصير كاتبا  كبيرا ستجد شركات الانتاج الفني تتنافس  لشراء حق استغلال أعمالك الأدبية والصحف الخليجية تدفع لك بالدولار حتى تكتب لهم مقالات.
في تلك اللحظات ستجد ابتسامة واسعة بلهاء ترتسم على وجهك واللعاب يسيل من فمك  وستتخيل نفسك تركت عملك الروتيني الممل و تحولت في وقت قصير إلى أديب كبير حائز على البوكر ولديك كتب مترجمة إلى كل لغات العالم بفضل مواهبك الأدبية الفذة.
ألف مبروك , لقد التقطت الطُعم.
 بعد ذلك ستجد نفسك تبحث عن أي وسيلة لتجميع المبلغ المطلوب ثم  ستطير على أجنحة السرعة نحو دار النشر للتعاقد وأنت تحلم بالمستقبل الأدبي  المشرق الذي ينتظرك.
عندما تقوم بزيارة دار النشر لتوقيع العقد ستفاجئ أن الدار  " الكبرى " عبارة عن شقة صغيرة مفروشة بإمكانيات محدودة , وأن موظفين الدار لا يزيدون عن شخصين أو ثلاثة, الناشر ومساعده الذي يتولى عملية توزيع الكتب والسكرتيرة.
 ربما ينتابك القلق عندما تكتشف أن دار النشر ليست كيانا كبيرا كما كنت تتخيل, ولكن حفاوة الناشر في استقبالك وأدبه الجم  والابتسامة الواسعة المرسومة على شفتيه ستبدد قلقك على الفور.
 إذا حاولت أن تفاصله وتطلب منه أن يخفض قليلا من المبلغ المطلوب سيقسم لك أنه لن يأخذ منك جنيها واحدا لأجل نفسه بل لأجل الطباعة فقط , وأنه سيقوم بتوزيع وتسويق الكتاب لك مجانا لأنه إنسان مهموم بالأدب والثقافة لذلك فهو يعمل ليلا ونهارا ويضحي بوقته وصحته من أجل إعلاء شأن الأدب المصري وإسعاد الأدباء الشباب وتحقيق أحلامهم, وسيتعهد لك بأنه سيقوم  بتوزيع كتابك في المكتبات الكبرى في كل المحافظات وعمل حفلات توقيع وحملات صحفية ولقاءات تليفزيونية لك.
 حينئذ سيهدأ خوفك ويطمئن قلبك  فسيقوم الناشر بإعطائك العقد وسيطلب منك قراءته جيدا قبل التوقيع, إحقاقا للحق فإن معظم الناشرين يقومون بإرسال عقد النشر للكتاب الكترونيا قبل الاتفاق على التعاقد حتى يمنحونهم  الفرصة لقراءته وطرح أي أسئلة أو استفسارات حوله. المشكلة أنك لن تفهم المضمون الحقيقي للعقد بمفردك مهما حاولت لأن البنود أحيانا تكون مكتوبة بطريقة معقدة أو غامضة كما أنها تهدف بالأساس لحماية الناشر وضمان كل حقوقه بينما لا تقدم أي ضمانات للكاتب, كما أن  حماس الكاتب لنشر عمله بأقصى سرعة يعميه عن قراءة العقد بوعي وتمهل خصوصا عندما يكون كاتبا جديدا لا يعرف شيئا عن خبايا النشر ونسب المبيعات والتوزيع. لذلك لكي تحفظ حقوقك لابد أن تقوم بعرض العقد على محامٍ محترف حتى يساعدك على فهم النصوص القانونية المبهمة ويضمن عدم تعرضك للاحتيال.
بعد أن تنتهي من توقيع العقد مع الناشر وإعطاءه المبلغ المطلوب سيهنئك و يبشرك أن عملك سيرى النور في الأسواق خلال شهور قليلة, ستخرج من مكتبه وأنت في قمة السعادة والحماس.
 لقد قمت باتخاذ أول خطوة لك في طريقك الأدبي ولكنك لا تعرف أن هذه الخطوة ربما تؤدي بك إلى الوقوع في الفخ أو في الكابوس.
ما هو الفخ ؟ وما هو الكابوس ؟

اعرفوا الاجابة في الجزء الثاني 

يمكنكم قراءة الجزء الثاني من هنا والجزء الثالث من هنا