النشر هو حُلم كل كاتب جديد, ولكي تحقق حُلمك لابد أن تدفع الثمن ماديا ومعنويا.
المشكلة أنك في معظم الأحيان تدفع الثمن ثم تكتشف أنك حصلت على سراب.
بعد أن تقوم بالتعاقد مع الناشر ستقضي أيامك في الترقب وانتظار اليوم الموعود, يوم خروج عملك إلى النور. الأيام ستطول وتتحول إلى شهور والناشر يقدم لك المزيد من الوعود والتطمينات, ومع مرور كل يوم يتصاعد قلقك وتتساءل إذا كنت وضعت نقودك في المكان الصحيح.إذا كنت سيء الحظ ستكتشف أنك كنت ضحية شخص محتال استولى على نقودك  ثم أغلق تليفونه واختفى من الوجود مما يعني أن  حلمك تحول إلى كابوس مفزع .ستقضي وقتك في تعقب الناشر وإبلاغ البوليس عنه وقد تضطر إلى رفع قضية عليه أو استخدام القوة والتخويف من أجل استرجاع نقودك, وسواء نجحت أو فشلت في الحصول على مستحقاتك ستصاب بأزمة نفسية حادة  وستندم على اليوم الذي قررت فيه الامساك بالورق والقلم.
أما إذا كنت محظوظا سيقوم الناشر بالوفاء بتعهداته معك وسيصدر عملك بعد شهور من التأجيل والتسويف. ستبكي من فرط الفرحة وأنت تحمل كتابك بين يديك كما يحمل الأب ابنه المولود بلهفة واشتياق, لكن دموع الفرحة ستتحول إلى نوع آخر من الدموع عندما تفتح الكتاب وتكتشف أنه مليء بالأخطاء المطبعية والتنسيقية وأن الورق المطبوع عليه الكتاب رديء جدا.
 ستتوالى بعد ذلك المفاجآت المثيرة للدموع , قد تكتشف أن الناشر أصدر عدد محدود من النسخ رغم أنه  أجبرك على دفع ثمن الطبعة الأولى, أو أنه خدعك حتى تدفع ثمن طبعتين على أنهم طبعة واحدة , وأنك لن  تحصل على نصف مبيعات الكتاب بل على ربع المبيعات فقط والباقي سيذهب للناشر والمكتبات ولخصم مصاريف الشحن, وأن الكتاب ليس متوافرا في كل المكتبات المتفق عليها, وأن الحملة الإعلامية " الضخمة " التي وعدك بها عبارة عن خبر صغير ستقوم أنت بصياغته ثم سيقوم هو مشكورا بإرساله للنشر في مواقع الكترونية مغمورة. 

حينئذ ستدرك أن ذكائك خانك وأنك وقعت في الفخ

سيتملكك الغضب الشديد و ستقرر الاتصال
بالناشر أو زيارته لكي تذكره بوعوده وتطالبه بحقوقك, لا تندهش عندما تراه يتجاهل مكالماتك ويتهرب منك أو يرد عليك باستعلاء وحدة وقلة ذوق متظاهرا بأنه مشغول بعد أن كان يرحب بك ويتعامل معك بأدب واحترام.
  انه لم يتحول لشخص آخر, لقد خلع القناع الذي  كان يرتديه وعاد لطبيعته وكشف عن وجهه الحقيقي.
بعد أن كان يثني على روعة عملك الأدبي ستجده
يخبرك بقسوة أن الكتاب لا يحقق مبيعات جيدة لأنه ليس على المستوى المطلوب.
 بعد أن كان يعدك بالاهتمام بتوزيع كتابك في كل مكان سيبرر عدم وجود الكتاب في جميع المكتبات بأن أصحاب المكتبات هم الذين يطلبون الكتب وهو لا يستطيع أن يفرض عليهم كتابا معينا لا يريدون عرضه.
إذا حاولت أن تعارضه ستفشل لأنك الطرف الأضعف ولا يوجد لديك وسيلة للتأكد من أرقام مبيعات كتابك أو من عدد النسخ المطبوعة منه أو من حجم توزيعه, ولا يوجد لديك أي وسيلة لإجبار الناشر على إصدار الكتاب في وقت معين أو توزيعه في كل المكتبات خصوصا أنه لم ينفق جنيها واحدا على الكتاب بل انه حصل على ثمن الطباعة مقدما وحقق منك بعض الربح.الأمر برمته يعتمد على ضمير الناشر وإخلاصه في عمله وايمانه بكتابك كما انه يعتمد على عدد  الكتاب الذي يتعامل معهم, كلما زاد عدد الكتب المنشورة من الدار كلما قل اهتمام الناشر بك  لأن كتابك سيكون واحدا بين عشرات وأحيانا مئات الكتب, والمكتبات لا يمكنها أن تعرض كل تلك الكتب, لذلك يمكن أن يضحي الناشر بكتابك لحساب كتب أخرى يراها تجارية أكثر.ستجد نفسك واقعا تحت تيارات متلاطمة من الصدمة والإحباط والحزن والحسرة على مجهودك الذي ضاع هباءَ ونقودك التي ضاعت في كتاب لن يقرأه أحد سواك أنت والمقربين منك,   ستشعر بالغضب من نفسك لأنك خضت مغامرة غير محسوبة وصدقت أحلامك فاتضح لك أنها كانت أوهاما.ربما ينتابك الشك في نفسك وفي إمكانياتك الأدبية وفي قدرتك على النجاح والوصول إلى القراء. ربما تستسلم للأمر الواقع ولا تطالب الناشر بأي شيء وتقرر إنهاء مسيرتك الأدبية في مهدها. وربما ترفض الاستسلام لأنك تملك الثقة بنفسك وبموهبتك,  فتقرر أن تحارب كل الظروف حتى تنجح حتى لو اضطررت أن تقوم بدور مدير التوزيع والتسويق, وتذهب إلى المكتبات وتعرض عليهم كتابك وتقوم بدور الوسيط بينهم وبين الناشر, ثم تقوم بتسويق الكتاب بنفسك الكترونيا في صفحات الفيسبوك والمجموعات الأدبية.
حتى لو نجحت خطتك واستطعت أن تحقق مبيعات جيدة وتخطيت الطبعة الأولى لن يهتم  الناشر بنجاحك , بل قد تجده خلال شهور قليلة يتصل بك ويخبرك آسفا أنه لن يصدر من كتابك طبعات جديدة  لأن صلاحيته انتهت ولا يمكنه أن يحقق مزيدا من المبيعات. 

هل الكتاب له تاريخ صلاحية ؟
نعم , لو كان كتابا تجاريا رديئا أما الكتب الجيدة التي تحمل قيمة حقيقية  فبإمكانها أن تعيش للأبد , لكن للأسف  ( بعض ) الناشرين يتعاملون مع الكتب  مثل الطعام إن لم يشتريها الناس سريعا تفسد وتصبح غير صالحة للاستهلاك الآدمي, ولأنهم يريدون إصدار كتب جديدة ويريدون جذب زبائن جدد فلابد أولا أن يتخلصوا من الزبائن القدامى باتباع سياسة التطفيش.
حتى لو تمكنت من صد كل محاولات تطفيشك واستطعت انقاذ كتابك من الإعدام المبكر فلابد أن تشعر بعد فترة بالتعب والإنهاك من الصراعات والمشاحنات المستمرة,  في النهاية ستستسلم وتقرر إنهاء التعاقد مع الناشر وتحصل على نقودك أو ما تبقى منها حتى تريح عقلك وأعصابك.عندما يأتي وقت حصولك على مستحقاتك المادية قد تفاجئ  أن الناشر لن يعطيك سوء جزء بسيط جدا من نقودك وسيعطيك بالباقي صناديق تحتوي على كتبك التي فشل في توزيعها. ولأن وقت الشجار فات, ولأنك تريد التخلص منه بنفس القوة التي يريد بها التخلص منك ستوقع على عقد المخالصة وستحمل صناديقك وترحل في صمت برأس منكس.بعد أن تضع الصناديق في منزلك ستنظر لها بحسرة وتتساءل ماذا بإمكانك أن تفعل بكل هذا الكم المهول من الكتب ؟ . بالطبع لا يمكنك أن تذهب للبقال وتعطيه كتابك وتطلب منه أن يعطيك مقابله  جبن رومي, لكن الكتب لها استخدامات كثيرة بخلاف القراءة ,فالناس في بلادنا يستعملون الكتب في كل شيء ما عدا القراءة.


بإمكانك أن تتصدق بكتبك لبائع الفول والطعمية المجاور لمنزلك وتكسب فيه ثوابا.بإمكانك أن تمزق ورق الكتب وتستخدمه كبديل للمناديل الورقية وتمسح فيه الدموع التي تنهمر من عينيك كلما تذكرت المبلغ الذي دفعته من أجل طباعة هذه الكتب.بإمكانك أن تشترك مع أولادك أو اخوتك الصغار في تمزيق  الكتب وتحويلها إلى طائرات أو مراكب شراعية .بإمكانك أن تدفن كل هذه الكتب تحت السرير وتدفن معها أحلامك الأدبية.
وبإمكانك أن تقوم بالاختيار الأصعب , وهو أن تستمر في المقاومة وتحاول تعويض الخسارة التي لحقت بك بأن تقوم بدور الناشر وتعرض كتابك في أي مكتبات متاحة أمامك.
 حتى لو نجحت في توزيع كتابك وبيع ما تبقى من النسخ التي تملكها وتمكنت من تعويض خسارتك المادية, فإنك لن تستطيع بسهولة أن تعوض خسارتك المعنوية والنفسية, لن تستطيع أن تمحي إحساسك بالفشل والقهر, النتيجة أنك ستصب جام غضبك على الكتابة. الكتابة هي السبب, الكتابة هي اللعنة التي أصابتك بالجنون وجعلتك تعطي نقودك برعونة لحفنة من المحتالين, ستكره الكتابة وستقرر الابتعاد عنها حتى تستطيع العودة إلى صوابك وتسترد اتزانك النفسي. لكنك لو كنت كاتبا حقيقيا لن تستطيع الابتعاد عن الكتابة لمدة طويلة, الراحة التي تشعر بها وأنت تكتب ستجعلك تدرك أنها ليست السبب في مشاكلك. ستستمر في الكتابة وستحاول البحث عن طريق لنشر أعمالك بالمجان.  

هل النشر المجاني لا يزال متاحا أمام الجميع ؟
 وهل هو جنة الكتاب أم أنه سراب آخر ؟
اعرفوا الاجابة في الجزء الثالث والأخير.